یُحکى أن تاجراً عرفه الناس بقسوة القلب. وکان هذا التاجر یشتری عبداً کل عام لیعمل عنده سنة کاملة فقط، ثم یتخلص منه. لکن لیس بتسریحه وإطلاق العنان له لیبحث عن عمل آخر أو سید آخر، بل کان یرمیه لکلاب عنده، یکون قد منع عنهم الطعام أیاما معدودات، فتکون النهایة بالطبع لذاک العبد مؤلمة. کان هذا التاجر یعتقد أن التخلص من خدمه بتلک الطریقة إنما هو طریقة للتخلص من مصدر ربما یکون قد عرف الکثیر من أموره وأسراره، فإن الخدم فی البیوت یطلعون على أمور کثیرة وأسرار عدَّة. قام التاجر کعادته السنویة بشراء عبد جدید، وقد عُرف هذا الجدید بشیء من الذکاء. ومرت علیه الأیام فی خدمة سیده حتى دنا وقت التعذیب السنوی.. جمع التاجر أصحابه للاستمتاع بمشهد الکلاب وهی تنهش فی لحم العبد المسکین. وکان کعادته قد توقف عن إطعام الکلاب عدة أیام حتى تکون شرسة للغایة. . لکن هاله ما رأى. ما إن دخلت الکلاب على العبد، حتى بدأت تدور حوله وتلعق عنقه فی هدوء ووداعة لفترة من الزمن ثم نامت عنده! احتار التاجر لمنظر کلابه الشرسة قد تحولت إلى حیوانات ودیعة رغم جوعها، فسأل العبد عن السر ، فقال له: یا سیدی لقد خدمتک سنة کاملة فألقیتنی للکلاب الجائعة، فیما أنا خدمت هذه الکلاب شهرین فقط، فکان منها ما رأیت!!
::ومضة :: إن نکران الجمیل أمر صعب على النفس البشریة ولا یمکن قبولها وتحدث من الألم النفسی الشیء الکثیر . الفطرة السلیمة والذوق السلیم عند أی إنسان أن من یقدم لک جمیلاً أن ترد بالمثل أو أجمل ، لا أن ننکر ه أو نرد بالأسوأ .
کان الحجاج بن یوسف الثقفی، على ما به من صلف وتجبر وحب لسفک الدماء، جواداً کریماً، لا تخلو موائده کل یوم من الآکلین، وکان یرسل إلى مستطعمیه الرسل، ولما شق علیه ذلک، قال لهم: رسولی إلیکم الشمس إذا طلعت، فاحضروا للفطور، وإذا غربت، فاحضروا للعشاء. وحدث أن خرج یوماً للصید، وکان معه أعوانه وحاشیته، ولما حضر غداؤه، قال لأصحابه، التمسوا من یأکل معنا، فتفرقوا کل إلى جهة، فلم یجدوا إلا أعرابیاً، فأتوا به، فقال له الحجاج: هلم یا أعرابی فَکُلْ، قال الأعرابی: لقد دعانی من هو أکرم منک فأجبته، قال الحجاج: ومن هو؟ قال الأعرابی: الله سبحانه وتعالى، دعانی إلى الصوم فأنا صائم. قال الحجاج: صوم فی مثل هذا الیوم على حره؟ قال الأعرابی: صمتُ لیوم هو أحرُّ منه، قال الحجاج: فأفطر الیوم وصم غداً، فقال الأعرابی: أَوَیضمن لی الأمیر أن أعیش إلى غد؟ قال الحجاج: لیس لی إلى ذلک سبیل. قال الأعرابی: فکیف تطلب منی عاجلاً بآجل لیس إلیه سبیل؟ قال الحجاج: إنه طعام طیب. قال الأعرابی: والله ما طیَّبه خبازک ولا طباخک، ولکن طیبته العافیة. قال الحجاج: أبعدوه عنی.
وسام الصرخی
تسکبُ قهوتها حتى تفیض؛ تقرأ فنجانها من زوبعته .. هکذا هی، علّمتها الحیاة أنْ لا نهایة لسخریةِ هذا القدر .. تبتسمُ بحذر، ثمَّ تعیدُ قرائة الفنجان مرّةً أخرى، تنظرُ بدقةٍ وترقّب هذه المرّة؛ یبدو أنّها أخطأت فی القرائة الأولى، لاشئ یدعو للبسمة .. سُرعان ما تتّضح معالمُ وجهها الشاحبة .. تلک التجاعید القاسیة التی رسمها مُرُّ الزمان وهی فی ال27 .. تتناول القهوةَ بهدوء .. وتأخذ أنفاسها من جدید لتبدأ یومها التقلیدی،على تلک الأریکة وأمام شاشة التلفاز ..
غیرُ آبهةٍ بأمر الفنجان وما تکتبه الأقدار، تنظرُ إلى الساعةِ فی أعلى الجدار المقابل،
" هذه الساعة لا تعمل منذُ زمن، ما الذی دفعها لمعرفة الوقت کغیر عادتها؟ " .. تُمسک بجهاز التحکّم و تبحثُ فی قائمة القنوات عن "الجزیرة" ..
{ إعتصاماتٌ فی میادین القاهرة وإنفجارٌ فی مقهىً ببغداد ومعارکُ طاحنة فی ضواحی دمشق بین الحر و النظامی وحلٌّ لمجلس الأمّة فی الکویت وإقتحامٌ لسفارةٍ أجنبیة فی بنغازی و... } نشرةٌ إخباریةٌ مُحبطة !!! "ما أجمل أن تشارکنی بلادی المأساةَ والملل هذه الأیام" تهمسُ مع نفسها فی حالةٍ من الذهول والنشوة الکاذبة قبل أن تُغلق صوتَ التلفاز بالکامل، وتأخذُ من على الطاولة کتاباً لا جلدَ له یدلُّ على هویته؛ تحاولُ أن تقرأ بصوتٍ مرتفع لتصنعَ أجوائاً أفضل ممّا مرّ بها من لحظاتٍ فی صباحها هذا .. فجأة، إنخفضَ صوتها وحُبست أنفاسها مخلّفةً ورائها " آهٍ " عمیقة تمتدّ جذورها لأجیالٍ من الذکریات،عاشت مُرّها، ورسمت حُلوها فی مخیّلتها المزدحمة على أمل اللقاء بها یوماً ما.. إنتهت تلک ال" آه " الثقیلة بسماعها صوت الجرس .. مغلوبةٌ على أمرها غادرت مخدعها وإتجهت نحو الباب وهی تضعُ مِعطفاً تُغطّی به شعرها وتقوم بتعدیل ما یمکن تعدیله من ظاهرها المنسی بسرعةٍ وإظطرابٍ شدیدین؛ ــ نادت مرتبکةً وبصوتٍ مبحوحٌ : مَن؟
ــ أجابت سیدةٌ من خلف الباب: أنا .. إنتابها شعورٌ بالطمأنینة لتعرّفها على صاحب الصوت .. فتحت الباب، دخلت أمها ومعها الخبز الذی تفضّله وأثارُ التعب تلوّن وجهها الستینی ذو الملامح العربیة الحادّة ..
تلومُ أمها کثیراً لأصرارها على قطع مسافة طویلة وتحمّلها عناء الحَر لتحصُل على "خبز تنور الطین" .. تتناول من یدِها الخبز وتأخذ بعبائتها لتزیلَ منها الأتربةِ القادمة من الصحراء الشقیقة یومیاً لزیارة أجواء البلاد ..
فی الأثناء، تمرُّ سیارةٌ فی الشارع وعلیها مکبّرة للصوت یُنادی من بداخلها النّاسَ لحضور مراسیم تشییعٍ لشابٍ من أهل البلدة کان قد فُقد قبل 10أیام .. لم تلبث العجوز أن داست عتبة البیت حتى عادت أدراجها لمعرفة الحادثة وملابساتها ،تفتحُ الباب لتجد أمامها الجارة "أم ناصر" تتصدّرُ المشهد وحولها مجموعةٌ من نساء الحی یتحدثن فی صُلب الموضوع .. ذهبت أمها لتنظمّ لأم ناصر ومن معها، وهی من خلف الباب تسترقُ السّمع للغایة ذاتها .. تعانی کثیراً لعدم وضوح الصوت القادم من الجمع، فالمتحدّثات نسوة!! بعد حین،تعودُ العجوز وقد أکرمت وفادة إبنتها بوابلٍ من الروایات المُتضاربة حول طریقة وأسباب موت الشاب، إلّا أنّ ما بقی عالقاً فی ذاکرتها، أنّهم عثروا علیه جُثّة هامدة فوق سطح ذلک النهر، الذی یمرُّ من تلک المدینة ..
لکنّها کانت تعرف سببَ موته؛ فقد لقی مصیرهُ المُحتّم بهذه الطریقة کغیره ممّن کانوا قد ساروا على خُطاه فی أرضها الضائعة ما جعلها تتذکّر خطیبها الذی خطفهُ ذلک النهر منها قبلَ 8 سنوات بنفس الطریقة البشعة .. عادت لتجلس على أریکتها وهی تنظر بإمعان لفنجانها الفارغ هذه المرّة، علّها تجدُ طالعاً أفضل لغدها لا یذکّرها بأمسها الألیم ....